العنصرة وفلسفتها في التراث الثقافي والحضاري
منذ القدم، حاول الإنسان فهم ظواهر الطبيعة من مطر ورعد وبرق وتساءل عن ماهية الشمس والقمر وعن وجوده هو نفسه… فكان تفسيره خرافيا، سحريا، أسطوريا في البداية ثم تطور ذلك التفسير ليتجلى في الأديان التي قدمت إجابات شتى عن تساؤلات البشرية، ثم جاء العلم الحديث ليقدم إجابات من نوع آخر. لكن الإنسان في مختلف أنحاء المعمور، رغم درجات التطور العلمي والمعرفي ظل يمارس ويعتقد أحيانا في “خرافات” أسلافه القدامى، بل يحتفي بها، ففي أكثر البلدان تقدما تقام أضخم الاحتفالات برأس السنة الميلادية وتخلد أسطورة مجيء “بابا نويل” بلحيته البيضاء لزيارة الاطفال وهو محمل بالهدايا وهذا الاحتفال قديم جدا وثابت في تاريخ الدين المسيحي
ففي المغرب مثلا نجد هذه الطقوس والمعتقدات حاضرة وخصوصا بمنطقة جبال الريف «بلاد جبالة » حيث يخلد السكان هذه المناطق عدة احتفالات شعبية ذات الطابع الطقوسي الشبه الديني وذلك وفق «رُزْنامة«( التقويم الفلاحي ) مضبوطة فمثلا «العنصرة» والتي هي عنوان لليوم السابع من شهر يوليوز لكل سنة، وهي أيضا اسم لموسم ثقافي وفني ترسم من خلاله ملحمة يُعبَّر فيها عن الفرحة والسرور، وهي كذلك بشرى بظهور نتائج الموسم
يُحتفل بالعنصرة في العديد من المناطق والقبائل وحتى بعض المدن، لكن بأسماء مختلفة، مثل (موسم العمارة) و(موسم التويزة) و(موسم العنصرة) و(موسم اللامة) (وعيد البحر) وغيرها من الأسماء. وهو تقليد لموروث متوسطي، أي يعود إلى شعوب المتوسط.
إن الاحتفال ب«العنصرة» يدخل في إطار نسيان الماضي والابتسام للمستقبل، حيث إن الفصول (الخريف والشتاء والربيع والصيف) التي مضت بها السنة الفلاحية تكون لكل منها ظروفه الخاصة، من حيث التأثير على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وطابع التأثير على الحياة المعيشية للساكنة, وذلك بأخذ الحيطة والحذر وبرمجة نفقات السنة حتى تمر في ظروف طبيعية.
وعند ما يحل موسم «العنصرة» يكون بمثابة البشرى، ويعلن بالحركة والرواج والتنمية الاجتماعية والثقافية والفنية، وتبرز الأفراح والأعراس والمواسم والمهرجانات، وينتقل الوضع الاجتماعي إلى الأحسن وتظهر مظاهر الرفاهية، وهو ما يعبر عنه العرس الكبير ل«العنصرة»، حيث يأتي الناس من العديد من المناطق والقبائل والقرى والمداشر، يأتون أفواجا ومجموعات عائلية وأفرادا، فيشكلون ملحمة حية وعرسا كبيرا يلبس فيه الناس أغلى وأفخر وأعز ما يملكونه من الملابس الفاخرة
والكل ملتزم بهذا، رجالا ونساء، وخاصة الشباب من المقبلين على مشروع الخطوبة أو الذين هم في طريقهم إلى الزواج , الكل يستغل يوم «العنصرة» للقاء والتعارف وربط علاقة تعارفية جديدة، وأيضا تجديد اللقاء بين من تعارفوا في الموسم الماضي، إنه يوم تربط فيه العلاقات وتتجدد فيه الاتصالات ويتبادل فيه الجميع ممن تعرفوا على بعضهم البعض الأسماء الشخصية وأسماء المداشر والسوق الأسبوعي.
العنصرة» هي أيضا مهرجان مفتوح للفن والطرب والغناء والنشاط والسباحة وركوب البحر، وذلك على شكل مجموعات جماعية تقوم برحلات قصيرة
المسافة على متن القوارب الصغيرة والمتوسطة ،وهو تعبير عن العودة الجماعية إلى أرض الأندلس التي ينحدر منها أغلب سكان قبائل جبالة.
المجموعات التي تركب القوارب تكون مصحوبة بجميع أنواع الفن والغناء والطرب، ويتم ترديد الزغاريد النسائية والطقطوقة الجبلية وإطلاق البارود من داخل القوارب وسط البحر.. إنه مسلسل يعبر بصدق عن مشاعر السكان ويذكر العائلات الموريسكية بماضيها ويعيد إليها ذاكرتها التاريخية فتستحضر ما قاسته حين طردت واضطهدت وتم ترحيلها قسرا، ظلما وعدوانا، على أيادي حكام حرب الإبادة بعد سقوط الأندلس. إن يوم «العنصرة» يعبر عن حلم العودة إلى البحر كرمز لعودة الموريسكيين إلى أرض أجدادهم في الأندلس.
الكل يمرح ويجري ويسبح ويستعرض قوة العضلات والقدرة على القفز فوق الأمواج والغطس والغوص لأبعد مسافة في أعماق البحر، الجميع يجري على شط البحر، نساء ورجالا، ومن مختلف الأعمار، يهدف ذلك إلى إظهار المهارات وقوة الأجسام، وهو ما يعطي فرصة يرى فيها العديد من الجنسين صورا حقيقية للمظاهر الخارجية لبعض شباب القرية والقبائل، ليكون الجميع على دراية بالأبعاد التاريخية للاحتفال، من خلال المشاهدة الطبيعية، وهي أيضا مناسبة ليتراءى ويلتقي الشبان، ذكورا وإناثا، وقد يتحول هذا اليوم إلى موعد للبحث والاختيار لرفيق وحبيب قد يرسم مسار حياة مشتركة والمضي في رحلة عمر يقترن فيها
المصير، إنها فرصة تأتي مرة كل سنة.
إن هذا اليوم يسهل التواصل بين أبناء القبائل والقرى ويفتح قنوات التعارف، وهو أيضا يوم يجتمع فيه الناس على شكل مجموعات وتنظم فيه ولائم , ورحلات وتتم عملية الطهارة للأطفال ..وتقام الخيام لبيغ المنتوجات المحلية التقليدية اشكالا وانواعا . وعند غروب الشمس، يبدأ الجميع بالتهيئ ليلية عيساوة وكناوة والغيطة.تشعل النيران ويقدم «طعام» الكسكس يأكل جميع الحاضرين ثم تجلس الجموع في صمت وسكون، لتبدأ الليلة برفع الاعلام وذكر الله ثم الرقص العيساوي المصحوب بالغيطة الذي هو خشوع الى الله بحركات وتعابير لاارادية .. تمر الليلة في جو من التأمل والوقوف والرجوع والتفكير في الحقيقة……وفي الغذ قبل غروب الشمس يستعد الجميع للانصراف الى مداشرهم مودعين القرية بالغيطة وقرع الطبول شاكرين مشكورين…..إ
العنصرة» هي موروث حضاري وثقافي وفني واجتماعي وإنساني وتقليدي وتاريخي يعود إلى مئات السنين ورثناه عن آبائنا وأجدادنا، فلنحافظ عليه..……..إإإ
إقـرأ أيضا